
6 أشهر 3 أسابيع ago
writer
ميزر كمال
الصراع على العراق لم يعد يدور حول النفط بل على الجغرافيا. فلسوء حظه، العراق هو العمود الفقري للطريق بين الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط، ويمتلك "ميناء الفاو الكبير"، الأساسي في الملاحة التجارية العالمية. وعلاوة على إيران والولايات المتحدة الأمريكية، هناك روسيا التي تمهد لموقع لها فيه منذ عام 2008، ودول الخليج العربي، وتركيا، ومصر والأردن..
أحد عشر شهراً مرت على اللحظة الأولى لاندلاع تظاهرات تشرين الأول / أكتوبر، أو "انتفاضة أكتوبر" كما يحلو لأبنائها تسميتها، تغير خلالها الكثير، بدءاً من إزالة اللثام عن وجه الطرف الثالث (المليشيات الموالية لإيران) الذي قنص وقتل واختطف مئات المتظاهرين، وحرَّض على التظاهرات بوصفها "جوكرية" وممولة من السفارة الأمريكية، مروراً بسقوط أكثر من 700 قتيلٍ من المحتجين، وأكثر من 30 ألف جريح، منهم 5000 يعانون الآن من إعاقة دائمة، انتهاءً بتفشي فيروس كورونا، وترنح البلاد على حبل الإفلاس وانهيار أسعار النفط، وتشكيل حكومة مصطفى الكاظمي، الحكومة التي تُعرّف عن نفسها – ظاهراً - بأنها ابنة التظاهرات ووليدتها، لكن في باطنها هي لحظة توافق بين الكتل السياسية الطائفية، وصفقة شراكة باركتها الأحزاب والمليشيات الولائية، وإن على مضض.. وإلا فلم تكن لتمرَّ حتى لو قُتِل آخر عراقي في آخر تظاهرة.
التظاهرات والسُلطة ولعبة الزمن
لم تغب التظاهرات عن المشهد العراقي، لكنها كانت تتضاءل بمرور الوقت، وتفقد صوتها العالي وكثافتها البشرية. ساهم في ذلك تمرّس السلطة، وأدواتها العسكرية في إتقان لعبة الزمن، وتحويل الاحتجاج من ظاهرة ثورية إلى فعل يومي يمارسه "شباب متحمسون، يقطعون الطرق ويحرقون الإطارات، ويعطلون مؤسسات الدولة، وينتهكون قدسية الحشد الشعبي الذي لولاه لاغتصب تنظيم داعش العراقيات واحدةً تلو الأخرى".
استمرار شيطنة التظاهرات من قبل الميليشيات والأحزاب الولائية، وإعلام "اتحاد الإذاعات الإسلامية" (الممولة من إيران) وكذلك دور مرجعية النجف الأسبوعي في إلقاء خطبة الجمعة التي كانت تمثل أحجية للجميع، وكلٌّ يؤولها كما يحب ويشتهي، أسست لقناعة عند الطبقة السياسية مفادها أن النظام الحالي هو مقْنع للمرجعية، على ما فيه من كوارث تأخذ بيد البلاد إلى الهاوية. وهذا صحيح. فبالنسبة للمرجعية، لن تأتي مرحلة أفضل من هذه، تكون فيها كلمتها هي العليا، ويكون فيها الساسة خاضعين لبياناتها، تخرج من بيت مساحته 70 متراً في النجف القديمة، وينتظرون التوجيه الأسبوعي من المرجعية، لاتخاذ أي قرار أو تبني أي موقف، بينما هنالك بلد يتناهبه الفقر والفساد والبطالة والموت.
ماذا يفعل العراقيون عادةً؟ يخرجون في تظاهرات
الحَرُّ يُخرج المصائب مثلما تخرج الأفاعي من جحورها، وهذا ما حدث في العراق. موجات حرّ هي الأعلى في العالم، أخرجت العراقيين مرةً أخرى إلى الشارع، فالبلد الذي أنفق على قطاع الكهرباء أكثر من 40 مليار دولار، ليس فيه ضوء ولا هواء ولا ماء بارد. كل ذلك يحدث وعدّاد الإصابات بفيروس كورونا يرتفع بطريقة مرعبة، والمستشفيات تحولت إلى بؤرة للتفشي، والمدن العراقية خالية من الأوكسجين، فمدينة مثل الناصرية، يتطلب الحصول على عبوة أوكسجين فيها الوقوف ساعات طويلة وربما أيام، فالأوكسجين في الناصرية لا يحصل عليه إلا ذوو حظ عظيم.
من أجل هذا تجددت الاحتجاجات مرة أخرى، فماذا يفعل العراقيون عادةً؟ يخرجون في تظاهرات. لكن، هذه المرة اختلف الأمر، فالأحزاب والميليشيات وإعلام "اتحاد الإذاعات الإسلامية"، الذين كانوا يُخوّنون المتظاهرين، ويحرّضون على قتلهم، ويتهمونهم بتلقي الدعم من الولايات المتحدة وإسرائيل، ويروجون أنهم نصبوا خيام الاعتصام من أجل ممارسة اللواط والزنا وتعاطي المخدرات وشرب الخمور.. فجأة صاروا يرون في هؤلاء "المخربين" مواطنين، لهم مطالب مشروعة، وصار تفريق تظاهراتهم قمعاً غير مبرر، وبدأت تنطلق البرامج السياسية، والتغطيات الإخبارية التي كانت مهمتها الوحيدة فيما سبق عزل الساحات والشوارع التي تحدث فيها تظاهرات عن بقية أجزاء المدينة، وتكريس فكرة أن المتظاهرين مجاميع متمردة وعابثة، وتمثل ورماً سرطانياً في جسد المدن... أصبحت هذه تتناول قضية الاحتجاجات من أبعاد وطنية، ولا تأل جهداً في المقاربة فيما بينها، وبين الحراك العسكري الذي يقوم به الحشد الشعبي (وكل ما تحت هذا الاسم من ميليشيات) في مواجهة تنظيم داعش، و"تصحيح المسار الوطني، ومواصلة طريق الثائرين الذي بدأه الحسين". لكنَّ ذلك لم يمنع المتظاهرين من تجريف مقار تلك الأحزاب والمليشيات بجرافات البلدية، كما حدث في ذي قار.البلد الذي أنفق على قطاع الكهرباء أكثر من 40 مليار دولار في العقدين الاخيرين، ليس فيه ضوء ولا هواء ولا ماء بارد.
في الحقيقة، فالهدف الأساسي من التعامل الجديد بالنسبة للطرف الثالث (أحزاب وميليشيات موالية لإيران وإعلامها) مع مشهد الاحتجاجات العراقية، هو إسقاط أو تسقيط حكومة مصطفى الكاظمي، الذي يروّج أن حكومته جاءت امتثالاً للحراك الشعبي التشريني. فهي تريد تأليب الشارع العراقي عليه باعتبار هذا الشارع لم يعد يثق بأي حكومة، ولا بكل الطبقة السياسية المتحكمة بمصير البلاد. وهذه النقطة تحديداً فهمها الكاظمي عندما خرج بخطاب قال فيه إنه لا يملك عصا سحرية لحل المشاكل التي تسببت بها الحكومات السابقة عليه، وأنه بحاجة إلى الوقت لوضع البلاد على المسار الصحيح.
الآن تحديداً، لا أسهل من دفع الشارع العراقي للتظاهر بظل انهيار البلد التام اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً. لكن الأصابع التي تحرك خيوط الاحتجاجات ليست في يد واحدة. فبالإضافة إلى يد العراقيين المغلولة، هنالك يد تمدها إيران، ويد تمدها الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه الأيادي تتصارع وتشتبك على مذبح العراق.
الكاظمي ابن هذا النظام بكل مساوئه وكوارثه
الكاظمي الذي بدأ عهده بارتداء الزي العسكري للحشد الشعبي، يعرف أنَّه نتاج أزمة سياسية واجتماعية، وأن فترة حكمه هي هدنة مؤقتة، قصيرة، لكنها كافية لإعادة ترتيب المشهد الطائفي. ويعرف جيداً أنه إذا حاول صعود السلم إلى نهايته سيسقط. فهو أتى من أجل مهمة واحدة، ولمدة سنة واحدة، وعليه أن يهيء لانتخابات مبكرة ثم يتنحى جانباً.. وهذا ما تُذكّره به الأحزاب والمليشيات الولائية يومياً، سواء من خلال البيانات والخطابات - كما فعل ويفعل زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي - أو من خلال رسائل أخرى على الأرض، تتمثل باغتيال أصدقائه الصحافيين والنشطاء، كاغتيال الخبير الأمني هشام الهاشمي في 6 تموز/يوليو 2020، ثم عمليات الاغتيال المتتالية الأخرى، والقصف اليومي بالكاتيوشا على المنطقة الخضراء (حيث مقر السفارة الأمريكية).
يقول العراقيون أن مصطفى الكاظمي لم يأت "من فطر الحائط"، فهو ابن هذا النظام بكل مساوئه وكوارثه على العراق، منذ 2003 وحتى هذه اللحظة، فهو السياسي والصحافي المعارض لنظام صدام حسين، الذي جاء مع هذه "الشلة" التي أتت على ظهور الدبابات الأمريكية، وفي أرتال شركة "بلاك ووتر" الأمنية، وأسست عراق المنطقة الخضراء. ثم هو رئيس جهاز المخابرات العراقي الذي سكت عن جرائم الميليشيات وعملياتها الإرهابية، ولديه الملفات السرية لنشاط كل حزب وميليشيا، والصراع الدائر الآن بينه وبين الكاتيوشا والكاتم الإيراني لا يُبّرئه من دم العراق.عدّاد الإصابات بفيروس كورونا يرتفع بطريقة مرعبة، والمستشفيات تحولت إلى بؤرة للتفشي، والمدن العراقية خالية من الأوكسجين. فمدينة مثل الناصرية، يتطلب الحصول على عبوة أوكسجين فيها الوقوف ساعات طويلة، وربما أيام.. فالأوكسجين في الناصرية لا يحصل عليه إلا ذوو حظ عظيم.
وهو عاجز عن تحقيق الحلم الأمريكي بالتصدي لإيران: تستولي المليشيات على أكثر من 20 بنايةً رئيسية داخل المنطقة الخضراء، وينتشر قرابة 5 آلاف مسلح تابع لها في طول المنطقة وعرضها، ويُناط بهم حماية مداخل الخضراء. وعندما اعتقل جهاز مكافحة الإرهاب خلية إطلاق الصواريخ التابعة لكتائب حزب الله العراقية، لم تجد تلك الميليشيا أي صعوبة في الدخول إلى المقر الرئيسي لأهم الأجهزة الأمنية في العراق. اقتحمته داخل الخضراء، وسيطرت عليه في تحدٍ لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي أفرج عن 13 عنصراً من أصل 14 عنصراً من الخلية بعد ساعات قليلة. وتظاهر العناصر المفرج عنهم داخل المنطقة الخضراء واضعين تحت أقدامهم صور الكاظمي! ومن المفارقات أن كتائب حزب الله تمثل أحد ألوية الحشد الشعبي، الذي يعد تشكيلاً أمنياً رسمياً يخضع لإمرة القائد العام للقوات المسلحة، أي للكاظمي نفسه. إنها قوة السلاح، لا قوة الديمقراطية!
ما يهم الآن جغرافيا العراق وليس نفطه
العراق - لسوء حظه - يمثل العمود الفقري لما يسميه الأمريكيون "الشرق الأوسط الجديد". فهو الطريق الواقع بين الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط، ويمتلك أغلى 20 كيلومتراً في الخليج العربي، هذه العشرون كيلومتراً هي شبه جزيرة الفاو، التي بدأ العمل على تحويلها إلى ميناء الفاو الكبير.
العراق طريق النقل العالمي الجديد. فمع ميناء الفاو الكبير، هنالك مشروع الربط السككي للقطار السريع، والذي في حال إتمامه ينقل البضائع بين المتوسط والخليج خلال 6 ساعات فقط، بينما يستغرق وصولها الآن من قناة السويس إلى الخليج العربي والعكس من 17 إلى 25 يوماً.
مصطفى الكاظمي لم يأت "من فطر الحائط"، فهو ابن هذا النظام بكل مساوئه وكوارثه على العراق، منذ 2003 وحتى هذه اللحظة، والصراع الدائر الآن بينه وبين الكاتيوشا والكاتم الإيراني لا يُبرئه من دم العراق